beforeheader desktop & mobile

beforeheader desktop & mobile

afterheader desktop & mobile

afterheader desktop & mobile

الوجه لا لباس له

حميد طولست

وجه الإنسان هو منطقة خاصة واستثنائية فيه، وأكرم بقعة فيه، وطرف جسمه الذي تجتمع فيه كلّ الحواس، وتتداخل فيه الكثير من العضلات، من أكثرها قوّة إلى أكثرها دقّة وتعقيدا، فهو عنوانه والدليل عليه، ورهان وجوديّته وإنسانيته، والمرآة التي من خلالها يمكن قراءة سريرته وما يخفيه من أبعاد أخلاقية واجتماعية وثقافية وسياسية وكلّ العلاقات الإنسانية الممكنة.


  فليس بغريب أن يرتبط وجوده وتميزه بما يميزه به عن غيره من الكائنات، كما يميزه في الآن نفسه عن بقية بني جنسه، فلا وجود له بدونه، إذ به يظهر ويواجه ويلاقي الأغيار، وهو، بكل بساطة، الكائن الوحيد الذي تطلق عليه كلمة “الوجه” في جميع لغات العالم، ولا تقال لغيره من الدوابّ أو الطيور أو الحشرات، وتجريد إنسان عن وجهه في الأمثال المأثورة الشعبية، هو بمثابة الزج به في حظيرة الحيوانات، وإنكار آدميته وإنسانيته لأنه عديم الحشمة والكياسة والظرف، لأن صفة الحشمة تقترن بالإنسان ولا تطال البقية غيره من الكائنات الحية، من حيوانات وحشرات، وتظهر أكثر ما تظهر على الوجوه Udmawen   (بالأمازيغية) بتدفق الدم عليه، محولة إياه إلى لون أحمر يظهر للعيان، تعبيرا عن  صدق مختلف الأحاسيس الإنسانية الغير المعتادة كالخوف أو الخجل كما في الأمثال التالية: “ما عندو وجه علاش يحشم” و”الوجه اللي يحشم مقزدر” و”وجهك هذاك أولا قفاك” و” عندو وجه الطراح” و”يزَّنْزْ أودْمْ نّسْ  Izzenz  udem nnes ”  الذي تعني ترجمته إلى العربية: “باع وجهه”، أي أصبح بلا وجه، بمعنى أن لا أخلاق فأصبح مثله مثل الحيوان.

 

وقد اهتم الشعراء كثيرا بوجه الإنسان فحظي عندهم باهتمام كبير فتغزلوا في نضارته ومحاسنه وتأثيره على العواطف والأحاسيس، حيث قال أحدهم:


إنسية في مثال الجن تحسبها         شمساً بدت بين تشريق وتغميم

شقّت لها الشمس ثوباً من محاسنها    فالوجه للشمس والعينان للريم.


وقال ابن شيخان السالمي:


بدت أسماءُ تسحب ذيل عطرِ       وتغزو الليل بالوجـه الأغـر

 

وقال بشار بن برد:


ذَكَّرَكَ البَدرُ وَجهَها فَتَـلا             لِلَّهِ وَجهُ الحَبيبِ مِصباحا

 

وقال لسان الدين بن الخطيب:


لا تُوقِدِ المِصْباحَ واعْلَمْ أنّ لي   منْ وَجْهِ مَنْ أحْبَبْتُـهُ مِصْباحـا

 

 وقال عمر بن أبي ربيعة:

 

ذات حسن إن تغب شمس الضحى     فلنا من وجهها عنها خلـف

 

فالوجه في كل الثقافات تقريبا، وبكل تسمياته، “أودم” Udem، في الأمازيغية بشتى لهجاتها، وLe visage أوface  أو figure  بالفرنسية، و  the face  بالانجليزية الخ، هو العضو الوحيد الذي لا لباس مقرّر له، كما قالت المفكرة الفرنسية “إليزابيت بادينتير”Elisabeth Badinter بأنّ الوجه هو” العضو الذي لا لباس له “il n’y a pas de vêtement pour le visage  “، إذ لكلّ عضو في الجسم رداء، حتى الأرجل لها جوارب والأيدي لها قفّازات، إلا الوجه فيبقى دائما مكشوفا، لا يغطّى إلا اضطرارا، ولظروف طبيعية خاصة كلثام أهل الصحراء مثلا”، لأن عري وجه المرء أمام الغير بلا غطاء هو دليل سلم ورغبة في التلاقي، ودعوة إلى ملاقاة الآخر في بعده الإنسانيّ، يشعر صاحبه بفردية واستقلال لأن الوجه هو العضو الوحيد الذي لا ينفك عن الانفعال ولا يتوقّف عن تعبيريته، إذ يكفي في كثير من الأحيان النظر إلى وجه الآخر، للتعرف على الكثير من الأشياء، كرَمشات العين المتكررة جدّاً والتي تعبِّر عن عصبية المخاطب، وكثرة تحريكها في كل الاتّجاهات، تدل على عدم نَّزاهته..


 هذه القدرة الخارقة على التعبير هي التي جعلت الكثير من علماء السلوك البشري يقرون بأن نصف تواصل الإنسان وتعبيره يتم بحركات الجسد والوجه على الخصوص بدلاً من الكلمات، كما قال الإمام علي رضي الله عنه: “ما أضمر أحد شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه”. وكما كتبته الصحفية دلال مدوه بصحيفة “الأنباء” الكويتي، عن “د. ماو شينج ني” أخصائي الطب الصيني- أنه ذكر في مقال له على موقع «ياهو هيلث» إنه وفقا للطب الصيني، فإن الوجه هو نافذة على الصحة، والمناطق الخمس للوجه وهي: الجبهة، الأنف، الذقن، والخدان الأيمن والأيسر، تعطي دلائل على ما يجري في أجسامنا، وتبلغنا بالاختلالات التي قد تجري بداخله، وإن كل جزء من الوجه يعكس عنصرا مختلفا من شبكة العناصر الخمسة عند الصينيين وهي: النار، الأرض، المياه، المعادن، والخشب، والتي بدورها تتوافق مع مجموعة معينة من أجهزة الجسم في التعابير الجسدية المكونة من حركات عدّة، البعض منها يكون مقصوداً والبعض الآخر يأتي عن غير قصد، أصبح لغة كاملة قائمة بذاتها، تطلبت استحداث علم الـ “كينيزيكس” لدراسة تلك التعابير الجسدية الكثيرة والغنية.

 

فتغطية الوجه، ورفض تعريته ليس إلا إعلانا برفض للتواصل وإقصاء لكلّ علاقة اجتماعية أو بينية مع الآخر، وتصريحا برفض الحياة والمجتمع، ومقدّمة وإيذانا بالحرب والكراهية تجاه الآخرين، فلا حرية ولا عقلانية ولا تواصل اجتماعيا أو سياسيّا إلا بالمواجهة، والحال أنّ تغطية الوجه رفض للمواجهة وأن من يتبرقع ويغطي وجهه، لا يلبس العضو الذي به يلاقي الآخرين غطاءا وحجابا فقط، بل يمنعه، بسلوكه المشين ذلك، من كل علاقة أخلاقية أو إنسانية وكل تواصل مع الآخرين، ويعلن بفعله ذاك رفضه التعايش معهم في نفس المحيط  والوسط، لأن الإنسان لا يلتقي بالآخرين إلا بوجهه، وأي تعبير حيوي يظهر على محياه أثناء الحديث أو التعامل مع الآخر، له دلالة معينة تعطيه فردانية وهوية وذاتية شخصية، يستطيع بها أن يتحرر من التحول إلى مجرّد رقم أو عنصر أو نوع في جنس عامّ، ويبني بها علاقات مع غيره من موقع “أناه”، بملاقاتهم على المستوى الإنساني، و رفض ملاقاتهم في غيره من المستويات غير الأخلاقية وغير شرعية.

 

فما الذي يعنيه حجب ومنع الإنسان وجهه من الانكشاف؟ الجواب واضح وبين ولاشك في أنه راجع بالأساس للرغبة في التحرّر من أثقال المجتمع و”عقلانيته” الأخلاقية والسياسية وقوانينه التي هي نفسها أثقال الوجه.


ويمكن توضيح الأمر أكثير من خلال تأمّل الاحتفالات التنكّرية والمهرجانات الكارنفالية التي تتم فيها لعبة تغطية الوجه والتقنّع إراديّا، حيث يشعر المرء المقنع فيها وكأنه تخلّى عن هويّته الأخلاقية والسياسية بتغطيته لوجهه، كما يمكن أن يلاحظ مثل ذلك الشعور أيضا عند اللصوص الذين يحسون لحظة تقنعهم بأنهم قد تحرّروا من الخوف والرقيب وكلّ التكاليف والمسؤوليات، وذلك لارتباط التقنّع – كما كان في الأوساط الأرستقراطية سابقا- باللعب والحرية واللامسؤولية والجريمة، حيث كان هذا التحرّر اختياريّا وظرفيا ومتوافق عليه، أو قل إنّه كان استراحة سرعان ما يعود منها المشاركون لأوضاعهم ومراكزهم الاجتماعية والسياسية، بخلاف ما يفرض على المرأة من برقع وسدل وحجاب وغيرها من أشكال الزّي والألبسة الغريبة والتي يلاحظ تكاثرها كالفطر في مجتمعنا، ويدعي بعض الشيوخ أنها إسلامية، وأنها اختيار إرادي فردي، بينما هي في الواقع إلزام وفرض جماعي بأمر رباني وفعل ديني صنع حججه سماسرة الدين والأخلاق والبيع والشراء البخس في آيات الله، والتي أصبح معها مُجرّد الاعتراض على هذا اللباس، هو اعتراض على حُكم الله وأمره، ما حول نصف المجتمع إلى “نينجا” رمز الإسلام السياسيّ بامتياز ورسالة سياسية وأخلاقية يعلنها الإسلام المؤدلج، الذي هو في حاجة، مثله مثل جميع الحركات الشمولية٬ إلى رمز مرئيّ -يشعر معه الكثير من الناس بخوف شديد، ونفور مفرط- لإظهار التحدّي وإبراز الخصوصيات وإشهار تمايز المسلمين، وخاصة في كل ما يتعلّق بالمرأة التي يتجبر عليها الرجل، ويتحكم بحياتها وكيانها وحريتها الشخصية باسم الصحوة الإسلامية!.


 تلك الكذبة الكبرى التي يروج لها الفكر الذكوري والإسلام السياسي، وكأن الإسلام عانى من غفلة حتى يحتاج إلى صحوة إسلامية، فالإسلام بخير، ولم يغب من قلوب الناس لحظة، والمسلمون لم يرتدوا عن إسلامهم قط، بل إنهم يتنفسون الإسلام كالأكسجين في كل مكان، حتى في حيي الشعبي فاس الجديد، الذي كان الإسلام فيه –كما أذكر جيدا- إسلاما لطيفا، جميلا، فيه نزعة إنسانية رائعة يحسده عليه العلمانيون وحتى المتأسلمون الجدد، مع أن جدتي رحمها الله وباقي نساء الحي لم يلبسن الحجاب يوما، واكتفين بجلابيبهن المغربية المتميزة بألوانها المتعددة وجمالية تفصيلتها الواحدة التي تسترهن، وفي نفس الوقت تحاكي تضاريس قامتهن الممشوقة وتكشف عن رونقهن البديع، ومع ذلك كن أكثر إيمانا من حفيداتهن المتحجبات، وأذكر جيدا أني كنت أصحو ليلا لأرى جدتي مع ملتحفة بملحاف، خاشعة غارقة في صلاة منتصف الليل التي تمتد حتى الصباح تغفو كملاك فوق الحصير القديم، وكانت لا تشبع من الاستماع لآيات الذكر الحكيم التي كانت تتغلغل في مشاعرها بقوة وترد مع القارئ بصوت هامس الآيات التي حفظت عن ظهر قلب، نعم كانت جدتي والكثيرات في حي فاس الجديد وباقي المغربيات يحفظن القرآن كله عن ظهر قلب، وأذكر انه لم يكن في حينا آنذاك من يكفّرهن أو يقطع رؤوسهن، لم يكن هناك من ينادي بالحجاب كخطوة نحو النقاب، ثم الانحطّاط والتقهقر والعودة بالمرأة إلى الدار وعالم الحريم والإماء والجواري والخدم الذي يجذره فكر الإسلام البدوي الرجعي المتخلف والذي تنبه له محمد عبده، وحذر منه في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن الماضي..

 

في ختام مقالتي هذه أؤكد أنه ليست لدي رغبة في أن أظهر في صورة المحارب للدين الإسلامي، كما يعلق بعضهم على مقالاتي، أو أسعى لتقويضه، أو تسجيل موقف لكي أحسب على هذا التيار أو ذاك، ولكني أشعر بالمرارة والألم عندما أرى هذه القسوة في التعاطي مع قضية المرأة عامة -على أساس أنها ناقصة عقل، وما يترتب على ذلك من الإحباط وفقدان الثقة في اكتساب الثقافة وفي إبداعها- التعامل مع وجهها على اعتباره عارا، أو شيء مخجلا، أو عورة، فأنتفض وغيري من المسلمين المعتدلين، لنلاحق هذا الزيف وهذا المنكر، بأقلامنا وألسنتنا وبالوسطية التي أمرنا بها الله ورسوله، كأمة وسطا، عسى أن تتوقف مهازل الفتوى المتخلفة عامة ومن بينها اعتبار الوجه عورة، وهو محط التكريم، بل هو أكرم بقعة في الإنسان في كل الشرائع والأعراف، حتى أن صفعة الوجه تعتبر إهانة عند كل شعوب الأرض بلا استثناء؛ لا يهمني في ذلك تطاول المتخلفين وسبهم أو لعنهم لي عبر الرسائل المجهولة أو المعلومة، ولا أهتم بويلات الثبور التي يتوعدني بها المتخلفون، لأني ككل مسلم صادق الإيمان بالله وحده، أرفض أن تتحول مسألة تغطية الوجه إلى معيار للفضيلة والرذيلة في مجتمعاتنا، لأن أخلاق الإنسان وتربيته وطريقة تعامله مع الآخرين هي المعيار الحقيقي في الحكم على الناس، ولهذا كان على هؤلاء الذين يدعون أن في التبرقع تحرير للمرأة من الشر، وقبل كل شيء، أن يتحرروا هم من شياطين الشر التي تتراقص بدواخلهم، ويطهروا أنفسهم من المعاصي والشرور التي تفتك بمرتكبيها أكثر مما تفتك بضحاياهم، كالقتل والسرقة والحسد والغيرة والغرور والأنانية وشهادة الزور وحب الظهور والتكبر واحتقار الآخر وتكفيره والاستيلاء على الممتلكات العامة والخاصة والرشوة والوشاية بالأبرياء والكذب والرياء.

 

وكما هو ملاحظ، أن المجتمعات التي يتمّ فيها فرض تغطية الوجه أو البرقع على النساء، هي في غالبيتها تلك المجتمعات التي ليس للمرأة فيها أيّ انتماء للمجتمع، أي ليس لها فيه أية قيمة أو هوية سياسية، بل هي مجرّد “موضوع” للمتعة فقط، ولا معنى في هذا السياق أيضا للحديث عن الحرية الشخصية في اختيار “اللباس”، لأن لا حرية إلا داخل مجال سياسي متفاعل وفعال، فالحرية ليست مفهوما ميتافيزيقيا صوريا، بل هي مفهوم يبنى في التفاعل السياسي، أي أنها لا تتحقّق إلا في المجتمع الواعي السليم والديمقراطي، والناس بطبعهم يحكمون على الأمور تبعا للأفعال المقترفة وليس للنوايا المعلنة في ثنايا الكتب المقدسة.

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد