في الساعة الخامسة صباحا، صار عبد العالي مستعدا للخروج. ارتدى بزته الرسمية، وتأكد أن العهدة في مكانها وأن لا شيء ينقص. ألقى بنظرة أخيرة على طفليه، ياسين وزكريا في غرفتهما بينما مازالا يغطان في نوم عميق، اقترب منهما وطبع على خديهما قبلتين سريعتين. عدل من وضع غطائيهما بطريقة تضمن لهما دفئا موزعا على أطرافهما السفلى التي وجدها عارية وباردة إلى حد كبير، في ذلك الصباح القارس من منتصف شهر فبراير الماضي. غير بعيد وقفت زوجته نادية تراقب المشهد كعادتها كل صباح، وهي تحاول أن تبتسم قدر المستطاع تشجيعا لزوجها الذي أصبحت لا تراه إلا لماما منذ بداية الحراك السياسي في الشوارع المغربية.
عبد العالي استدعي طيلة الأسبوع من طرف إدارته الأمنية على هذا النحو الباكر، للاطلاع على آخر مستجدات التعامل مع وضع خاص كان المغرب مقبلا على الدخول فيه ابتداء من منتصف شهر فبراير الماضي. انطلاق الحركة الاحتجاجية ل20 فبراير فرض أجندة جديدة على الأجهزة الأمنية المغربية، مبدأها الأساسي : الاستنفار المتواصل. قبل الشروع في المواكبة الأمنية نظريا وتطبيقيا، انصب الاهتمام داخل الجهاز الأمني، وفي مجموعة عبد العالي بالخصوص، على تدبير طريقة حماية الممتلكات الخاصة والعمومية للمواطن المغربي. ففي وضع حراك جديد يتخذ من الشارع ميدانه للتعبير، لم يكن من الممكن التنبؤ بتطوراته، ولا تطور سلوكات محركيها أو من اندس معهم، وبالتالي تصبح الحاجة إلى الحذر مضاعفة. عبد العالي، لتفانيه في الشغل ونزاهته ومشواره المتميز، اختير قائدا للمجموعة، والساهر على العلاقة بين الإدارة ومن معه من عناصر. منذ اختياره، ازدادت علاقته بمرؤسيه ورؤسائه كما تفترض أبجديات العمل الأمني، لكن حضوره العائلي تضائل بقوة. فكيف يعيش عبد العالي وأمثاله من رجال الأمن، في مختلف الأسلاك والأجهزة، الوضع الصعب لمغرب الاحتجاجات الجديد ؟
امتى نشوف ولادي ؟
تتحول ولاية الأمن بالدارالبيضاء، منذ بداية الاحتجاجات إلى اليوم، إلى خلية كبيرة لا تنام ولا تتوقف. على مدار الساعة تتوزع المأموريات في كل الاتجاهات، وغالبا ما تتجاوز ساعات العمل اليومي الدوام العادي كما هو متعارف عليه في الأسلاك الأمنية. الاستثناء لا يقصي أية رتبة أمنية، فالكل معني بالاستنفار من أعلى الرتب إلى الشرطيين المكلفين بالحراسة في المواقع الحساسة. حسن، أحد هؤلاء الشرطيين، متزوج حديثا، قال على سبيل المزحة أن زوجته لم تعد تعرفه، لأن أوقاتهما اختلفت كثيرا. ففي الوقت الذي يغادر فيه البيت في ساعات الصبيحة الأولى، الخامسة صباحا في غالب الأحيان، تكون زوجته مازالت تحت أغطيتها في السرير، تنعم بنوم هادئ. حين يعود في المساء، بعد العاشرة في السواد الأعظم من الحالات، تكون الزوجة قد استسلمت للنوم أو تستعد لذلك !
سعيد مسؤول أمني كبير بولاية أمن الدارالبيضاء، يعيش وضعا مماثلا، يواجهه بالقليل من الصبر والكثير من المزاح والحس الفكاهي. رب أسرة منذ ما يربو على العشرين سنة، وأب لخمسة أبناء، أصبح هذا المسؤول يمني النفس بيوم واحد رفقة الأبناء، دون جدوى. متسلحا برباطة جأش دائمة وقدرة متجددة على مواجهة تحديات اليوم الطويلة والشاقة والمتعبة. سعيد الذي تعود في الماضي على منح أبنائه وزوجته يوما واحدا في الأسبوع للتجمع والخروج في نزهة إلى ضواحي الدارالبيضاء أو أحد المنتجعات القريبة، وجد نفسه منذ فبراير الماضي غير قادر على الاحتفاظ بهذا اليوم لنفسه على الأقل. « لا وقت للراحة لأن الوضع يتطلب التجند المستمر وحماية الوطن والمواطنين ضرورة ملحة» يعقب سعيد في حديثه للأحداث المغربية. الواقع أنه ومنذ بدء موجة الاحتجاجات التي تتزعمها حركة 20 فبراير، لم يحظ سعيد ولا أي مسؤول بيوم واحد من الراحة.
عبد الهادي أحد الملتحقين حديثا بسلك الشرطة يعيش هو الآخر وضعا خاصا منذ فبراير الماضي. هذا الشاب المتزوج حديثا والذي يقطن رفقة زوجته بمدينة برشيد، كان يجد الوقت الكافي عند نهاية دوامه اليومي لقصد محطة الطاكسيات بكراج علال، ثم الانصراف إلى بيته يوميا. مع تزايد حركة الاستنفار الأمني مطلع السنة الجارية، أصبح عبد الهادي مطالبا بتقديم خدماته لساعات طويلة يوميا، لدرجة أن تنقله إلى محطة كراج علال لم تعد تجد نفعا. إذ غالبا ما يصل متأخرا ولا يعثر على طاكسي لنقله لبيته البعيد. اضطر في حالات كثيرة إلى «خرق القانون» والسفر إلى برشيد مع الخطافة من محترفي النقل السري. مع الوقت واستمرار الوضع على ما هو عليه، لم يجد عبد الهادي بدا من البحث عن مكان للإقامة داخل العاصمة الاقتصادية. بمعية زميلين في المهنة، يكتري عبد الهادي نصف شقة، ولا يلتقي مع زوجته إلا مرة واحدة في الأسبوع. وعند سؤاله عن كيفية تقضية باقي الأوقات بعيدا عن زوجته، يجيب مبتسما : في التلفون !!
أسبوع حافل
العشرة أيام الأولى من شهر أبريل الماضي لن تنساها مكونات الجسم الأمني في العاصمة الاقتصادية لفترة طويلة من الزمن. بعض الأمنيين يصفونها بالأيام الأطول، تيمنا بشريط «اليوم الأطول» الذي يحكي قصة النزول الأمريكي في الأرض الأوروبية خلال الحرب العالمية الثانية ! هذه ليست حربا، يقول عبد الهادي، لكنه استنفار متواصل استمر أسبوعا بكامله، وانتهى ب72 ساعة جهنمية. في ذلك الأسبوع تحديدا تكالبت ثلاثة مواعيد كبرى كان من المنتظر أن تستقطب عشرات الآلاف من المغاربة، من داخل الدارالبيضاء وخارجها. ثلاثة مواعيد في يوم واحد : العاشر من أبريل.
في البداية جاء بلاغ التنسيقية المحلية لحركة 20 فبراير يدعو المنتسبين إليها، من تيارات سياسية وشبيبة حزبية ومستقلين وباقي المواطنين المغاربة إلى التظاهر سلميا انطلاقا من العاشرة صباحا، في عدة محاور رئيسية في العاصمة الاقتصادية مع الالتقاء في نهاية المسيرة بساحة محمد الخامس. ثم بعده بساعات، جاء بيان شباب أطلقوا على حركتهم إسم تاريخ الخطاب الملكي الذي وجهه الملك محمد السادس للمغاربة في 9 مارس الماضي. بدورهم دعوا الشعب المغربي إلى ما أسموه الخروج «للتعبير عن الوطنية الصادقة وتفنيد الدعوات التي ترمي إلى زعزعة علاقة المغاربة بملكهم».
لكن الحدث الأكبر الذي كان ينتظره المغاربة جميعا وليس البيضاويون وحدهم يوم الأحد 10 أبريل، هو الديربي البيضاوي الذي كان من المنتظر أن يعرف متابعة كبيرة من طرف عشرات الآلاف من مشجعي قطبي كرة القدم المغربية. في الأيام العادية يضيف عبد الهادي، تتطلب الخطة الأمنية المواكبة للديربي تهيئا خاصا يأخذ الأسبوع بأكمله مع تجنيد ما يقارب ال5 آلاف أمني، من مختلف الأسلاك لتأمين مرور عادي وسلس لمباراة القمة في الدوري المغربي بين الرجاء والوداد، وهو ما زاد الأمر تعقيدا.
خلال العاشر من أبريل 2011، بلغ الاستنفار الأمني مداه. كان من المفروض على الأجهزة الأمنية أن تترصد كل صغيرة وكبيرة في الدارالبيضاء من ساعات الصباح الأولى، إلى منتصف الليل. ما توفق فيه منظمو المظاهرتين بالتنسيق مع الأمنيين كان واضحا عند الجميع، عندما أحصت المدينة خسائرة العمومية والخاصة في اليوم الموالي. كان النجاح الأمني كبيرا، لكن التكلفة الإنسانية كانت كبيرة أيضا. فقد دخل عشرات الأمنيين في غيبوبة، ونقل عدد منهم، خصوصا من المصابين بالأمراض المزمنة، إلى المستشفيات لتلقي العلاجات. في الملعب، ودقائق قبل نهاية المباريات، سقط ثلاثة عسكريين مغشيا عليا متأثرين بإصابات متفاوتة الخطورة.
الواجب أولا
«تعود الموظفون في باقي الإدارات والدوائر الرسمية وغير الرسمية على الشكوى. في الأسلاك الأمنية هذا شيء نادر الحصول لإن المسؤولية هنا في حماية البلاد والمواطن أمر لا يناقش» يكشف أحد عمداء الشرطة المتقاعدين للأحداث المغربية. تأكيد تعززه سلوكات رجال الشرطة والأمنيين الذي التقهم الجريدة، داخل أوقات العمل في حالات كثيرة. من النادر أن يطلعك أحدهم على معاناته، لكن الأمر لا يتطلب كثير ذكاء لاستخلاص حساسية الوضع الذي يؤدون فيها مهامهم خلال الأشهر القليلة. على سبيل المزحة أو في باب الثقة، قد تصدر منهم بعض التلويحات في هذا الشأن التي يصرون على أنها غير قابلة للنشر !
بالإضافة إلى الاستنفار الأمني الخاص الذي يعرفه المغرب منذ مطلع السنة الحالية، بعد انتقال عدوى الاحتجاجات إلى المدن المغربية بضغط من حركة 20 فبراير التي حركت المياه الراكدة في الساحة، فإن الواجبات اليومية تظل هاجسا يوميا. العشرات من المداهمات، مئات الاعتقالات والآلاف من الوظائف الأخرى التي تتوزع بين الإداري والمكتبي. كلمة السر تصبح هي الواجب المهني، كما يكتب صديق الشرطة المغربية على صفحته الإلكترونية على الفايس بوك، حين يعلن أن التعب لن ينال من العزيمة، وأن الإصرار لا يزيد إلا إصرارا على التفاني في سبيل الوطن.
في المساء، بدا عبد العالي متعبا في طريق العودة إلى البيت بعيد منتصف الليل بقليل، لكنه أصر على الاحتفاظ بابتسامة خاصة. « الواجب أولا» يكرر في كل مرة يحس أن سيل الشكاوي سينفرط من داخله.
سعيد نافع